المغرب: من نهضة عمران إلى نهضة إنسان (الحلقة 2)


بقلم الدكتور أحمد أزوغ
أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الإصطناعي بباريس

دوافع التخلق: من يُوجّه أخلاق المغاربة؟

يعد هذا المقال الحلقة الثانية من سلسلة مقالات تتوخى الدفع بنهضة أخلاقية مواكبة للنهضة العمرانية التي يعرفها المغرب. وقد دق المقال الأول ناقوس الخطر حول تأخر النهضة الأخلاقية في المغرب، رغم التقدم الملحوظ في مجالات البنية التحتية والسياسات العمومية، منبها للتأثيرات السلبية لهذا التأخر، لا المعنوية فقط وإنما حتى المادية والحضارية. وقد بيّنا في المقال الأول أن لا تنمية ممكنة دون إنسان نزيه، وأن القانون والخطاب الأخلاقي وحده لا يكفيان ما لم يُدعّما بضمير حي. ولا يُفهم من هذا الطرح أي انتقاص من خصال المغاربة أو تنكّر لما يزخر به هذا المجتمع العريق من قيم نبيلة، وأخلاق فاضلة راسخة في ثقافته ووجدانه. بل إن الهدف من هذا المشروع هو تقويم سبل التخلق وترسيخ منظومة الأخلاق الاجتماعية، بما يعزّز الثقة، ويُحاصر الفساد المؤسسي في مختلف مستوياته، ويُمهّد لنهضة إنسانية تُواكب ما يتحقق من نهضة عمرانية.

وفي مسعانا لفهم البنية العميقة التي تُنتج الأخلاق والسلوك في الثقافة المغربية، لا مناص من أن نحاول الإجابة عن سؤال الدافع. ما الذي يجعل الإنسان المغربي يتخلق؟ وما الذي يجعله يتهاون؟ لا يمكن أن ننكر في هذا المسعى تأثرنا بالمشروع الفلسفي الفريد لمحمد عابد الجابري، والذي قدّم من خلال “نقد العقل العربي” قراءة مفصلية لأنماط التفكير في الثقافة الإسلامية من خلال تفكيك ثلاث بنيات أساسية: البيان، البرهان، والعرفان. وقد بيّن أن البنية المعرفية تؤثر مباشرة في كيفية إدراك العالم، وتكوين الأحكام، واتخاذ القرارات. مستلهمين من هذا المنهج، نحاول بدورنا تفكيك البُنى التي تُشكّل منظومة التخلّق في المغرب، لا بوصفها معطى ثابتًا موحدا، بل كبنية مركبة تتداخل فيها عوامل دينية، وقانونية، واجتماعية، ونفعية، وعقلية، ووجدانية.

لكن قبل ذلك، من المفيد أن نوضح المقصود بـ”التخلق” في هذا المشروع. فنحن نقصد به اعتماد السلوك الذي يعتبره الناس في ثقافتهم وتجربتهم تصرفًا محمودًا أو مذمومًا، بغض النظر عن دوافعه ومصادره. ولا شك أن في الأخلاق ما هو مشترك كوني تتفق عليه سائر المجتمعات كالصدق والأمانة والرحمة وكف الأذى، وفيها ما هو نسبي ثقافي كالحشمة والحياء والتوقير واللباقة. وما يهمنا هنا هو دراسة المجتمع المغربي بخصوصيته الثقافية، مع الإشارة إلى أن بعض المجتمعات العربية والإسلامية قد تشترك معه في خصائص أخلاقية مماثلة. ثم إننا حين نذكر النهضة الأخلاقية، لا نقصد بها جملة من الفضائل الفردية المجردة، بل نستهدف بها منظومة الأخلاق الاجتماعية التي تُسهم مباشرة في تعزيز التضامن، وتحسين مناخ الثقة، والرفع من جودة العمل، وترسيخ العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد. إننا نستهدف أخلاقًا عملية فاعلة، كالنزاهة والمسؤولية والإتقان والصدق والتضامن واحترام القانون وكف الأذى وتغليب الصالح العام.

بعد دراسة متأنية لمؤثرات السلوك عند الإنسان المغربي، نقترح تصنيف هاته الدوافع لستة محددات، بصيغ دلالية مختصرة موزونة تسهل تمييزها، ثلاث منها دوافع خارجية وثلاث منها بواعث ذاتية. فأما الخارجية فنجملها في: الإيمان، والسلطان، والجيران، وأما الذاتية فنعبر عنها ب: الرجحان، والبرهان، والوجدان. وفي هذا المقال نأخذ بالتحليل والدراسة مجموع العوامل الخارجية التي تؤثر في تخلق الإنسان المغربي.

الإيمان: حين تُربط الأخلاق بالثواب

فأما الإيمان فنقصد به حضور الدين كمحفز مركزي للسلوك الأخلاقي، سواء عبر العقيدة أو الشعائر أو التقاليد الدينية. وقد اخترنا ادراجه مع العوامل الخارجية أخذا في الاعتبار جانبه التشريعي الذي يؤطر سلوك الإنسان. فالأخلاق ترتبط في المخيال المغربي بالدين. والمتدين في نفس المخيال غالبا خلوق إلا في حالات تجلب الاستنكار. وعند المغاربة “الدين المعاملة” ، و”اللي يخاف الله ما يظلم حد”، وحديث النبي ﷺ “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” على كل الألسن. ويوافق هذا التصور فلسفيا ما يُعرف بنظرية الأمر الإلهي، والتي تقول بأن الخير ما أمر الله به، وأن الشر ما نهى عنه. وقد دافع عنها فلاسفة مثل الغزالي، والقديس أوغسطين. لكن البعض يفهم أن الدين بالأساس عبادة : شعائر منفصلة عن المعاملة وحسن الخلق، ويغفل عن مئات النصوص التي توضح غير ذلك، ليس أقلها حديث المفلسّ، من جاء يوم القيامة بعبادة كاملة وخلق سيئ فكُب في النار. ثم من الناس من يفهم الدين كأخلاق فردية ويهمل الأخلاق الاجتماعية، وهكذا تجد مع الأسف الملتحي المفرط في الأمانة والمحتجبة الغاشة في الامتحان في تناقض مستهجن بين مظهر مؤمن وتعامل مسيء. 

ثم إن الدين يُبَلغ في كثير من الأحيان بمنطق الثواب والعقاب، حيث يُطلب من الطفل أن لا يكذب حتى لا يدخل النار، وأن يكون أمينًا لأنه سيُجازى على ذلك في الآخرة. لكن الحضور القوي لمعنى التوبة، يزين للبعض التهاون في ظلم الغير متيقنا بضمان الغفران. فيضعف تأثير هذا الدافع عنده في الالتزام بحسن الخلق. يشبه هذا ما يسميه كانط بالأخلاق غير الذاتية، حيث يُفعل الخير خوفًا أو طمعًا لا عن قناعة. وهذا المحذور حاضر في الدين نفسه وهو ما يستنبط من حديث النبي ﷺ: “من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة”، فقال معاذ: “أفلا أُخبر الناس فيستبشروا؟”، فردّ عليه ﷺ: “إذن يتكلوا”. فهذا التوجيه النبوي يعكس بعمق الخوف من أن يتحول الدين إلى وعد بالغفران يُضعف إرادة التخلق ويدفع إلى التواكل، بدل أن يكون باعثًا على المجاهدة وترقية النفس. وهذا ما نلمسه في الثقافة الشعبية المغربية حين تُستعمل عبارات مثل: “النية أبلغ من العمل”، و”الله غفور رحيم”، و”الإيمان فالقلب” أحيانا لتبرير التهاون أو التجاوز. وهكذا ورغم انتشاره الواسع في المجتمع المغربي، إلا أن فاعلية الإيمان في التخلق تبقى اليوم متوسطة خاصة إذا لم تدعّم بالتربية والإقناع.

السلطان: قانون يردع أم يُقنع؟

وأما السلطان فيُقصد به القانون والسلطة كقوة ضابطة للسلوك. فالمنظومة القانونية المغربية التي تحمي من الظلم في المجتمع غنية ومتكاملة. والقانون يمنع السرقة، والغش، والكذب في العقود، والاعتداء على الآخرين. والمواطن يعي وجود القانون، وعامة ما يمتثل له تجنبا للعقوبة والردع. وكثيرا ما نسمع “اللي دار الذنب يستاهل العقوبة”، و “دير النية وخاف من المخزن”. يتقاطع هذا التصور مع رأي توماس هوبز، الذي يرى أن الإنسان، في طبيعته، أناني يميل إلى الفوضى والصراع، ولا يرتدع عن الشر إلا بوجود سلطة قاهرة تفرض النظام بالقوة. وهذا ما نجده لدى الماوردي في الأحكام السلطانية، حيث يَعُدّ من وظائف الحاكم ضبط السلوك العام، وإقامة الحدود، وتحقيق العدل، باعتبار أن استقرار الأخلاق لا يتحقق إلا بتفعيل سلطة الدولة الرادعة.

لكننا نسمع أيضًا في المقابل أيضا : “القانون كايتطبق غير على اللي ما عندوش”، و”اللي عندو مو فالعرس ما يباتش بلا عشا”، ما يُظهر أزمة ثقة لا في وجود القانون، بل في عدالته وحياده. فحين يرى المواطن أن القانون لا يُطبّق على الجميع، أو أن الرشوة تمكنه من تجاوزه، فإنه يفقد احترامه له ويضعف حافز الالتزام به. وعندما لا يُشرك المواطن في صياغة القانون أو شرحه، فإنه يشعر أنه مُراقَب لا شريك. وهنا نُحيل إلى ما يقوله روسو عن العقد الاجتماعي: “القانون لا يُحترم إلا إذا شعر الفرد بأنه ساهم في صناعته، وأنه يُطبَّق عليه كما يُطبّق على غيره بالعدل نفسه”. عندما يسأل الإبن أباه في السيارة لماذا أضع الحزام الأمان أو لماذا نحترم إشارة المرور، فإن أكثر الأجوبة شيوعا هي “حتى لا يمسكنا الشرطي”. فنحن نربي على الامتثال للقانون أكثر مما نشرح الجدوى منه. وهكذا، ورغم حضور سلطة القانون كدافع أخلاقي قوي في الذهنية المغربية، إلا أن فاعليتها تظل متوسطة لارتباطها بحضور المراقبة، وكثيرا ما يصدق المثل “إذا غاب القط إلعب يا فأر”، و”من أمن العقوبة أساء الأدب”.

الجيران: المجتمع من رقيب إلى شاهد

وأما الجيران فنرمز به إلى المجتمع والمحيط من أسرة وأصدقاء وزملاء وجيران كمصدر للحكم على السلوك ومراقبته. فالمجتمع المغربي كان تقليديًا قويًا في التأثير على السلوك من خلال مفاهيم “العيب”، و”الحشومة”. فالطفل المغربي، كما في كل الثقافات، لا يتخلق فقط بما يُقال له، بل بما يراه ويعيشه. يتأثر بأفعال محيطه أكثر من أقواله، ويعيد تمثيل ما يشاهده في أسرته ومدرسته وحيّه، فيكتسب بذلك تمثّلات سلوكية تلقائية، ويلتقط مبكرًا كيف يتفاعل الغير مع السلوك، فيتعلم متى يكون الصدق فضيلة ومتى يكون “سذاجة”، ومتى يُحتفى بالغش كـ”شطارة”، ومتى يعتبر خيانة. وهكذا يصبح الوسط مرآة للذات، ومصدرًا لاكتساب القيم أو تحريفها.

يوازي ذلك السلطة المعنوية للجماعة التي يشير إليها ابن خلدون والتي تُلزم الإنسان بالتخلق، حفاظًا على السمعة والمكانة. وهي نفسها الرقابة الجمعية التي تحدث عنها دوركايم، الذي اعتبر أن الأخلاق تُولد من المجتمع وتُفرض على أفراده. وهو الحياء نفسه الذي يجعل الإنسان يرفض أن يكون ذئبًا في المجتمع كما يقول روسو. ومع تزايد الفردانية والتمدن والعزلة وانتشار وسائل التواصل الرقمية تفككت الروابط، وبدأت هذه القوة تتآكل، ما جعل السلوك الأخلاقي أقل ارتباطًا بالوسط المعيشي منه بالوسط الرقمي. وأصبح ينظر إلى المحيط كرقيب مزعج فضولي أكثر من كونه حاضنة مواكبة وموجهة. وتحول المحيط من ناصح إلى فاضح، ومن ضامن للأمن والعرف العام لباحث عن “البوز”، ناشر له سواء سلبا أم إيجابا.وهكذا ورغم انتشار هذا المحدد الاجتماعي، فإن تأثيره في بناء حسن الخلق بدأ يضعف ويتلاشى.

خلاصة

لقد بيّنا في هذا المقال أن الإيمان، والسلطان، والجيران تُعد من أبرز الدوافع الخارجية التي تُوجّه سلوك الإنسان المغربي. لكنها، رغم فعاليتها المؤقتة، تظل محكومة بحضور الرقيب: وازع الدين، أو رجل السلطة، أو نظرة المجتمع. وحين يغيب الرقيب، يضعف التخلق ويتراجع السلوك القويم. فحلق الوعظ والإرشاد وخطب الجمعة حافلة، والشرطة و”المقدمون” في كل مكان، والمجتمع مازال متماسكا بعيدا عن الفردانية الغربية، فما تفسير ضعف الأخلاق الاجتماعية وانتشار الفساد؟

هل يمكن أن نبني أخلاقًا دائمة غير مشروطة، دون الخوف من العقوبة أو الرغبة في الإرضاء؟ هل من الممكن أن يكون الإنسان مستقيمًا حتى في السر، دون أن يراه أحد؟ هل يمكن أن يصبح الخُلق عادة مستقرة، لا ردة فعل ظرفية؟ هنا يبرز السؤال الحاسم: ما الذي يدفع الإنسان للتخلق من تلقاء نفسه؟ ما الذي يجعله يختار الصدق وهو قادر على الكذب، أو الأمانة وهو قادر على السرقة؟ أي قوة داخلية تجعله يرفض الشر حتى حين يكون رابحًا؟ هذه الأسئلة ستقودنا في المقال الثالث، حيث نغوص في أعماق البواعث الذاتية: الرجحان، البرهان، والوجدان. فهناك، لا يكون التخلق مفروضًا من الخارج، بل نابعًا من القناعة، والعقل، والضمير.

1 comment
  1. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته دكتور احمد ،ماشاءالله عليك مقال قيم جدآ يصور لنا حال الأمة العربية مع الأسف التدهور الأخلاقي في الأمم رغم تقدم البنيات التحتية و أسفاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

المغرب في المركز الثاني بإفريقيا و67 عالميًا في جاهزية التقنيات المتطورة

المنشور التالي

النفط ينخفض عالميًا.. فلماذا لا تنخفض أسعار الغازوال محليا!؟

المقالات ذات الصلة