المغرب: من نهضة عمران إلى نهضة إنسان (الحلقة 1)

بقلم الدكتور أحمد أزوغ
أستاذ باحث، مدير ماستر للذكاء الإصطناعي بباريس

ناقوس الخطر – هل من نهضة بلا ضمير؟

رغم التحولات الكبرى التي يعرفها المغرب في البنية التحتية، والاقتصاد، والسياسة الخارجية، فإن هناك خطرًا محدقا يُهدد اكتمال هذا المسار: غياب النهضة الأخلاقية. لا نتحدث هنا عن الأخلاق كخطابات وشعارات، بل عن سلوك يومي، عن أمانة في العمل، عن صدق في القول، عن احترام للقانون بوعي، عن أداء للواجب بوازع داخلي، لا خوفًا من الردع فقط.

في سنة 2024، أظهر تقرير منظمة الشفافية الدولية أن المغرب يحتل المرتبة 99 عالميًا في مؤشر الفساد من أصل 180 دولة، متراجعا بمرتبتين عن سنة 2023 في تقهقر خطير ومقلق. هذا الترتيب ليس فقط رقمًا في تقرير، بل مرآة لواقع نعيشه يوميًا: في الإدارة، في التعليم، في الأسواق، وحتى في العلاقات الاجتماعية. الغش في الامتحانات أصبح ظاهرة موسمية، الرشوة صارت عُرفًا في بعض الإدارات، المعارف والوساطات صارت أحيانا ضرورية لنيل الصفقات، وعدد المسؤولين المتساقطين في قضايا فساد مهول، والمواطن البسيط يفقد الثقة في المؤسسات، لأنه يراها، رغم كل المجهودات المحمودة المبذولة، لا تستطيع دوما حماية النزيه، ومعاقبة من يخرق القانون.

المشكلة ليست فقط في أن القانون لا يُطبق كما يجب، بل أن الضمير لا يتحرك كما يفترض. فالأسر لم تعد تربي النشئ على الأخلاق كما في السابق، ولم تعد توليها المدرسة الاهتمام، بل حتى في الخطاب الديني، أصبح التركيز على الشعائر يفوق العناية بالمعاملة. وهكذا، تَحوّل الدين من مصدر للقيم الشاملة إلى مجرد حفظ للنصوص، وأداء للعبادات، رغم أهمية ذلك، وباتت الأخلاق موضوعًا ثانويًا في مناهجنا وخطبنا يجوز تجاوزه. فالطفل عليه ألا يسرق حتى لا يذهب إلى السجن أو إلى النار، وليس لأن الفعل في ذاته سيء شنيع. فإذا علم أن باب التوبة متاح وأن الشرطي غائب، هل من الأكيد أنه لن يسرق.

وفي الجانب الآخر، عامل النظافة الذي يداوم كل يوم في الوقت المحدد، يكنس الشارع بصمت، ولا يمد يده لأحد. لا كاميرا توثّق، ولا مسؤول يراقب. لكنه يعمل. لماذا؟ لأنه يشتغل بضمير. طبيبة المستوصف القروي التي تُعالج المرضى بابتسامة وتودد رغم غياب التجهيزات. أستاذ القرية النائية يشرح لتلاميذه بجد وهو يعلم أن لا أحد يُراقبه. الموظف الإداري المنهي لمهامه في وقتها دون أن ينتظر “قهوة” أو مكافأة. هؤلاء هم من يحملون البلد حقا على أكتافهم، لا لأنهم خُلقوا مختلفين أو لأنه خائفون من المحاسبة، بل لأنهم اختاروا الأخلاق والأمانة عن قناعة وضمير وصدق.

النهضة الحقيقية لا تُقاس فقط بعدد الكيلومترات من الطرق السريعة، ولا بعدد المصانع، بل بمستوى الثقة، وبعدد الناس الذين يختارون الخير لأنهم يؤمنون به، لا لأنهم مراقبون. مجتمعات كثيرة نهضت لأن الأخلاق ترسخت كهوية فطرية للمواطن، لأن الإنسان فيها كان نزيهًا حتى في غياب القانون، لأن الثقافة العامة لا تبرر الغش، ولا تحتفي بالمراوغة. نحن نُعلّم أبناءنا كيف يجيبون في الامتحان، لكن لا نعلّمهم لماذا لا يجب أن يغشوا. نحفظهم آيات وأحاديث، لكن لا نربطها بسلوك يومي صادق. نُردد أن الدين معاملة، ثم نُفرّغ المعاملة من معناها. نطلب من الشباب أن يكونوا صالحين، لكنهم يرون يوميا كيف ينجح الوصوليون والانتهازيون بل ويتفاخر المجتمع ببعضهم.

وحين نُحاول وضع رقم تقريبي لتكلفة غياب هذه الأخلاق في المغرب، نجد أرقامًا صادمة: ما يقارب 90 مليار درهم سنويًا تُفقد من ميزانية الدولة بسبب الاقتصاد غير المهيكل والتهرب الضريبي، حسب قانون مالية 2024، هذا دون احتساب خسائر الثقة، وانعدام الشفافية، وتعطّل دواليب الإدارة بسبب غياب النزاهة.

ولنفهم ضخامة هذا الرقم، يكفي أن نعلم أن هذه الـ90 مليار درهم كانت يمكن أن تُموّل سنويًا:
 – بناء 1000 مستشفى قروي، أو 15 مركزًا استشفائيًا جامعيًا بحجم مستشفى الرباط الجامعي.
 – إنشاء 3000 كيلومتر من الطرق السيارة، أو 3 موانئ من حجم طنجة المتوسط.
 – دعم 15 مليون أسرة فقيرة بـ500 درهم شهريًا لمدة عام.
 – بناء 300 مركز تكوين مهني أو تمويل 30 جامعة من حجم جامعة محمد السادس متعددة التخصصات.
 – إقامة 30 مصنعًا متوسط الحجم أو 7 مصانع كبرى مثل مصنع بطاريات السيارات الكهربائية الصيني.

هذه ليست أرقامًا خيالية، بل حقائق من واقع البلد. وكلها تضيع سنويًا بسبب غياب ثقافة الضمير.

قد يقول قائل إن المقاربة الأمنية والقانونية هي الحل، أما الخطاب الأخلاقي فلن يجدي نفعا ولن يكبح جماح الطامعين. صحيح أن الردع القانوني ضروري، لكنه غير كافٍ. فالقائم على تطبيق القانون نفسه قد ينخره الفساد، بل وقد يتحايل باسم القانون من أجل الإفساد. وأما المراقبة، فرغم أهميتها، فهي مكلفة وغير مضمونة النتيجة، فالمراقب يلزمه مراقب، ومن يُريد الاحتيال يجد دومًا وسيلة لتجاوز الرقابة. لذلك، يبقى الوازع الداخلي، والإرادة الذاتية، والضمير المجتمعي، هي الركائز الأكثر فعالية واستدامة.

إننا بحاجة إلى دق ناقوس الخطر: لا تنمية بدون إنسان نزيه. لا ازدهار بدون ثقافة أخلاقية مبنية على الضمير لا على الخوف. ولا مستقبل لمجتمع يُعلّم أبناءه أن “النية” مجرد نية صلاة وصيام، ويُهمِل أنها أيضًا نية نزاهة وصدق وعدالة. نحن لا نحتاج فقط إلى بنية تحتية، بل إلى ضمير حي. الرهان الحقيقي للمغرب هو بناء الإنسان. والإنسان لا يُبنى بالقوانين وحدها، بل بالمثال، بالتربية، بالقدوة، وبثقافة جماعية تُشجّع على مركزية النزاهة لا على الذكاء المغشوش. هذه هي معركتنا اليوم: أن نُربّي جيلاً يُحب الخير لذاته، لا لمقابل. عندها فقط، يمكن أن نقول أننا ركبنا طريق التنمية المستدامة، ويمكن لنا أن نطمئن إلى مستقبل هذا البلد.

لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: كيف نُربّي هذا الجيل؟ كيف نُعيد للضمير مكانته في البيت والمدرسة والإدارة والمسجد؟ هذا ما سأحاول ملامسته في المقالات القادمة من هذه السلسلة، بدءًا من مفهوم “النية” في الوعي المغربي، وصولًا إلى آليات عملية للتربية على الأخلاق اللامشروطة، مستلهمين الرشد من تراثنا، ومن تجارب المجتمعات التي وضعت الإنسان قبل كل شيء.

2 comments
  1. شكرا سي احمد على هذا المقال القيم و ادلي بدلوي لتزكية مقالك بما يلي :
    بناء مجتمع قائم على الأخلاق الإنسانية والتربية السليمة، والذي يحارب الرشوة والغش والفساد، يتطلب جهودًا متكاملة على عدة مستويات:

    1. التربية الأخلاقية والتعليم
    – تعزيز القيم الإنسانية مثل الصدق، العدل، الاحترام، والتسامح منذ مراحل التعليم المبكر.
    – إدراج مناهج تربوية تُعنى بالأخلاق والمواطنة الصالحة في المدارس والجامعات.
    – تعليم مهارات التفكير النقدي لتمكين الأفراد من مقاومة الفساد واتخاذ قرارات أخلاقية.

    2. الأسرة ودورها الأساسي
    – تربية الأبناء على المبادئ السليمة وتشجيع النزاهة والمسؤولية.
    – القدوة الحسنة من الوالدين والمحيط الأسري في التعامل بالأمانة والشفافية.

    3. تعزيز الشفافية والنزاهة
    – إنشاء أنظمة رقابية فعالة لمحاربة الفساد والرشوة.
    – تشجيع الإبلاغ عن الفساد بحماية المبلّغين وتسهيل القنوات الآمنة للإبلاغ.
    – تعزيز الشفافية في المؤسسات الحكومية والخاصة عبر نشر البيانات ومساءلة المسؤولين.

    4. القوانين الصارمة والتطبيق العادل
    – تفعيل تشريعات رادعة ضد الرشوة والغش والفساد المالي والإداري.
    – ضمان استقلالية القضاء لتحقيق العدالة دون محاباة.

    5. المجتمع المدني والإعلام
    – دور الإعلام في التوعية بمخاطر الفساد وتكريس ثقافة النزاهة.
    – تمكين منظمات المجتمع المدني لمراقبة الأداء الحكومي وتوعية المواطنين.

    6. القدوة القيادية
    – قيادات نزيهة في الحكومة والقطاع الخاص لتكون مثالًا يُحتذى به.
    – مكافحة المحسوبية وتعيين الكفاءات بناءً على الجدارة.

    7. المشاركة المجتمعية
    – تشجيع العمل التطوعي وروح المسؤولية الاجتماعية.
    – حملات توعوية مستمرة لتعميق الوعي الجماعي بأهمية الأخلاق ومخاطر الفساد.

    النتيجة المتوقعة
    مجتمع متماسك، عادل، ينعم بالثقة والاستقرار، حيث يعمل أفراده لتحقيق الصالح العام بدلاً من المصالح الشخصية الضيقة.

    البناء الأخلاقي للمجتمع ليس عملية سريعة، بل يحتاج إلى استمرارية و تضافر جهود الجميع: الأفراد، الأسرة، المؤسسات التعليمية، الحكومة، والإعلام.

  2. شكرا على هذا المقال الجميل دكتور.
    تذكرت و أنا أطالع النص أمريْن:
    – أغنية ناس الغيوان “ما هموني غير الناس اذا ضاعوا، الحيوط لحْيُوط إذا رَابُو كُلّها يَبْنِـــــــــــي دَار”. فالإنسان يبني العمران و إِن دُمِّر و لكن من يبني الإنسان إن فسد أمره؟
    – حادثة وقعت لزميل لي حكاها لي عند زيارة عملية لليابان حيث نسى هاتفه داخل كشك لهاتف عمومي بالشارع، و حين تذكره و عاد وجد شخصين خارج الكشك أبوا أن يدخلوا حتى يعود صاحب الهاتف..هذا بلد بنى الإنسان و تكلف الإنسان ببناء العمران…
    شكرا و ننتظر بفارغ الصبر المزيد…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المنشور السابق

معركة الإعلام تشتعل في بروكسل: الصحف اليومية تتحدى هيمنة عمالقة التكنولوجيا

المنشور التالي

السعيدية تحتضن ندوة دولية لتطوير الريكبي الإفريقي عبر المدارس والجامعات

المقالات ذات الصلة