كشف استطلاع حديث أنجزه المركز المغربي للمواطنة في شتنبر الجاري عن انهيار شبه كامل للثقة العامة للمغاربة في الأحزاب السياسية، حيث أكد 94,8% من المشاركين عدم ثقتهم فيها، مقابل 5,2% فقط عبروا عن ثقتهم. كما أظهر الاستطلاع، الذي شارك فيه 1197 شخصا من مختلف الأعمار والجهات عبر استبيان إلكتروني، أن 96,7% من المستجوبين يعتبرون أن مستوى الثقة تراجع بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، فيما رأى 2,6% أنه ظل مستقرا، و0,7% لاحظوا تحسنا طفيفا.
ووفق نتائج الاستطلاع، جاءت الأحزاب السياسية على رأس قائمة المؤسسات التي تعاني أزمة ثقة، إذ صنفها 91,5% من المستطلعين بأداء ضعيف، تلاها البرلمان بنسبة 89,5%، والحكومة بنسبة 87,3%. ثم النقابات بـ84,7%، والمعارضة السياسية بـ80,6%، والجماعات الترابية بـ78,2%. حتى وسائل الإعلام لم تسلم من هذا التقييم، إذ اعتبر 73% أن أداءها ضعيف، بينما منحت الجمعيات وضعا أفضل نسبيا بـ50,4% من التقييمات السلبية.
وفي تفسيره لأهمية هذا الاستطلاع في هذا التوقيت، قال رشيد الصديق، رئيس المركز المغربي للمواطنة، في تصريح لـTHE PRESS إن هذا “العمل يندرج ضمن استراتيجية المركز الرامية إلى جعل صوت المواطن جزءا أساسيا من النقاش العمومي، من خلال رصد آرائه حول القضايا والسياسات التي تهمه بشكل مباشر”, مضيفا أن “اختيار موضوع الأحزاب السياسية في هذا التوقيت بالذات يرتبط بالاستحقاقات التشريعية المقبلة لسنة 2026، حيث يزداد الاهتمام بمدى قدرة الأحزاب على لعب أدوارها في الوساطة السياسية والتأطير المجتمعي”. وأكد أن الهدف هو توفير معطيات نوعية تعكس تصورات المواطنين وانتظاراتهم، وتبرز الحاجة إلى إصلاحات عميقة تستجيب لمتطلبات المرحلة المقبلة.
وحول النتائج الصادمة، قال الصديق إن الأرقام لم تكن مفاجئة بقدر ما كانت مقلقة، لأنها تعكس شعورا عاما ظل يتنامى منذ سنوات، مضيفا أن غياب الثقة أصبح اتجاها مؤكدا يهدد شرعية الوساطة السياسية. واعتبر أن المسؤولية مشتركة، لكن الأحزاب تتحمل النصيب الأكبر بسبب ممارساتها المتمثلة في ضعف الديمقراطية الداخلية، استمرار نفس القيادات، غياب التواصل، وتحويل الانتخابات إلى محطة ظرفية بدل مسار مستمر.
وأظهر الاستطلاع الذي اتخذ “الأحزاب السياسية المغربية وأزمة المصداقية: نتائج استطلاع رأي” عنوانا له, أن 91,2% من المشاركين غير منخرطين حاليا في أي حزب، و71,6% منهم لم يسبق لهم الانخراط مطلقا، فيما انسحب الآخرون بسبب غياب الديمقراطية الداخلية (33,2%)، وعدم تعبير الأحزاب عن التطلعات (22,3%)، والتهميش والإقصاء (14,2%)، والصراعات الداخلية (12,2%). كما أكد 76,2% من غير المنخرطين أنهم لا يفكرون في الانضمام مستقبلا. أما على مستوى الديمقراطية الداخلية، فأوضح 97,9% أن الأحزاب لا تحترمها، و98,2% أكدوا أنها لا تختار مرشحيها بناء على الكفاءة.
وفي تفسيره للاختلالات البنيوية التي جعلت الأحزاب عاجزة عن أداء دورها، شدد الصديق على أنها تحولت إلى أجهزة مغلقة تشتغل بمنطق الولاءات والزبونية أكثر مما تعتمد على البرامج والكفاءات. وأضاف أن غياب الشفافية وتضارب المصالح وارتباط صورتها بالفساد، قوض مصداقيتها، بينما يجد الشباب والنساء أنفسهم مقصيين أو مستعملين كواجهة شكلية، ما يعمق العزوف السياسي, ويجعل من الأحزاب “جزءا من الأزمة بدل أن تكون جزءا من الحل”.
وعن الدوافع التي تقف وراء ترشح السياسيين للانتخابات، أجمع 92% على أن تحقيق مصالح مادية هو الهدف الأساس، مقابل 91,5% للسعي وراء السلطة والنفوذ، و75,1% لضمان الحصانة، في حين لم تتجاوز نسبة الذين ربطوا الترشح بخدمة الصالح العام 6,4%. أما بالنسبة لتصويت المواطنين، فيأتي المقابل المالي في الصدارة بنسبة 77,7%، ثم الانتماء القبلي أو الجهوي بنسبة 55,4%، وتوجيهات الأسرة أو المحيط الاجتماعي بنسبة 37,8%، فيما رأى 26% أن قرب المرشح من المواطن عامل مؤثر، و22% اعتبروا النزاهة والسمعة أساسا، مقابل 8,6% فقط منحوا الأولوية للبرنامج الانتخابي.
وحول مخرجات الاستطلاع، أكد الصديق في تصريحه أنه يشكل أداة عملية للفاعلين السياسيين وصانعي القرار، لأنه يثبت بالأرقام أن أزمة الثقة في الأحزاب المغربية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، ويكشف أن العزوف السياسي هو في جوهره موقف احتجاجي على طريقة اشتغال الأحزاب ليس فقط غيابا عن صناديق الاقتراع. وأضاف أن إدخال صوت المواطن إلى قلب النقاش العمومي يحول الرأي الشعبي إلى مادة قابلة للنقاش والاستثمار بدل أن يظل مهمشا.
وفي ما يخص سبل استرجاع الثقة، رأى 89,7% من المشاركين أن تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة هو المدخل الأساسي، يليه وضع حد لاستعمال المال في الانتخابات (57,2%)، وتشديد شروط الترشح (51,1%)، والوفاء بالبرامج الانتخابية (48,1%). كما شدد 88,1% على ضرورة تحديد مدة المسؤولية داخل الأحزاب في ولايتين فقط، فيما أكد 93,5% أن النظام الانتخابي الحالي لا يساعد على تمثيل الإرادة الشعبية.
وختم رشيد الصديق تصريحه بالتأكيد على أن هذه الأرقام، رغم قسوتها، تحمل جانبا إيجابيا، إذ تشكل دعوة صريحة للأحزاب لمراجعة ذاتها والقيام بإصلاحات عميقة تعيد بناء الثقة، معتبرا أن الاستطلاع لا يقتصر على تشخيص الأزمة، بل يمثل أداة تحفيزية لتغيير عميق يعيد الاعتبار للعمل السياسي ويهيئ الأرضية لاستحقاقات 2026.